لما ولدت السيدة آمنة محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أرضعته سبعة أيام, ثم أرضعته ثويبة الأسلمية مولاة أبي لهب أياما, وأرضعت معه أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي بلبن ابنها مسروح.
وثويبة أرضعت عم النبي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه, وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلها وهي بمكة, وكانت خديجة تكرمها, وقيل: إن خديجة سألت أبا لهب في أن تبتاعها منه لتعتقها فلم يفعل, فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب, وقيل: أعتقها حين بشرته بولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ورأى أبا لهب بعض أهله في النوم في شر حال, فقال: ما لقيت بعدكم راحة, إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين. ولم نذق بعدكم رخاء غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولد يوم الاثنين, وكانت ثويبة قد بشرته بمولده, قالت له: أشعرت أن آمنة ولدت غلاما لأخيك عبد الله؟ فقال لها: اذهبي, فأنت حرة. فنفعه ذلك (الروض الأنف للسهيلي 99/3) أي: فنفعه فرحه بمولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام ابن الجزري شيخ قراء عصره: (فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار لفرحه ليلة مولد محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما حال المسلم الموحد من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببشره بمولده وبذل ما تصل إليه قدرته في محبته؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنة النعيم. (سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد للصالحي 366/1).
وفي هذا المعنى يقول الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي: إذا كان هذا كافرا جاء ذمه.. وتبت يداه في الجحيم مخلدا أتي أنه في يوم الاثنين دائما..يخفف عنه بالسرور بأحمدا فما الظن بالعبد الذي كان عمره.. بأحمد مسرورا ومات موحدا وبعد الهجرة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إلى ثويبة من المدينة بكسوة وحلة حتى ماتت بعد فتح خيبر, فبلغت وفاتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأل عن ابنها مسروح, فقيل: مات. فسأل عن قرابتها فقيل: لم يبق منهم أحد.
ثم أرضعته صلى الله عليه وآله وسلم أم كبشة حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث السعدية, وهي التي أرضعته حتى أكملت رضاعه, ورأت لنبوته وسيادته براهين وآيات, أرضعته بلبن ابنها عبد الله أخي أنيسة وجدامة وهي الشيماء أولاد الحارث بن عبد العزي بن رفاعة السعدي, وأرضعت معه ابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب, وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ثم أسلم عام الفتح وحسن إسلامه, وكان عمه حمزة مسترضعا في بني سعد بن بكر فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهتين, من جهة ثويبة ومن جهة السعدية.
وقد مست بركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرضعته حليمة في نفسها وولدها ورعيها وقومها وظهرت هذه البركة في كل شيء.
فقد خرجت حليمة من بلدها مع زوجها وابن لها رضيع في نسوة من بني سعد تلمس الرضعاء وكانت سنة مجدبة لم تبق لهم شيئا, قالت: والله ما ننام من بكاء صبينا من الجوع وما في ثديي ما يغنيه, وخرجت علي أتاني الضعيفة العجفاء وقد أصيبت ركبتها, حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فعرض علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتيم, وإنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي, فأخذناه عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة.
فلما أخذته رجعت به إلى رحلي, فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما, وقام زوجي إلى ناقتنا المسنة فإذا هي حامل, فحلب منها فشرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا, فبتنا بخير ليلة.
وفي الصباح خرجنا وركبت أتاني, وحملته عليها معي, فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء, حتى قالت صواحبي: أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها يا حليمة والله إن لها لشأنا.
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها, فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا, فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب! فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطر لبن وتروح غنمي شباعا لبنا, فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته, وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا. ثم قدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا, لما كنا نرى من بركته.
فنشأ صلى الله عليه وآله وسلم شطرا من طفولته في بادية بني سعد في الحديبية وأطرافها, وشطرا في المدينة, وعند حليمة شق صدره صلى الله عليه وآله وسلم وملئ حكمة ثم عادت به حليمة إلى أمه.
وبعد أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة قدمت حليمة على مكة, وشكت إليه الجدب, فكلم خديجة بشأنها فأعطتها أربعين شاة, وقدمت مع زوجها بعد النبوة فأسلما.
وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين, وهو على الجعرانة, فقام إليها وبسط لها رداءه فجلست عليه.